الضفة الغربية- استيطان يلتهم الأرض ويهدد الوجود الفلسطيني

المؤلف: د. أحمد أبو الهيجاء08.10.2025
الضفة الغربية- استيطان يلتهم الأرض ويهدد الوجود الفلسطيني
سأستهل مقالتي هذه بذكر حادثة شخصية مؤلمة وقعت في الثالث عشر من تموز/يوليو المنصرم (13-7-2024)، حينما ولجتُ برفقة زميل دراسي وأستاذ جامعي إلى بؤرة استيطانية رعوية تقع في منطقة "المعرجات" وسط الضفة الغربية خطأً، إذ تصورت أنني بالقرب من تجمع بدوي فلسطيني. لكن سرعان ما تبين لي أنني أمام خيام بدوية لا يسكنها البدو الفلسطينيون، بل استولى عليها وطرد أهلها منها ما يُعرف بـ "فتية التلال"، وهم جماعة استيطانية متطرفة تنشط في التضييق على الفلسطينيين في الضفة الغربية. وما إن اقتربنا من المكان، حتى انقض علينا ثلاثة مستوطنين داخل الجبل، واتخذوا قرارًا بإعدامنا بشكل فوري. ولم ننجُ بحياتنا إلا لأن آجالنا لم تحن بعد. ولأنني من منطقة جنين، ازداد غضب المستوطنين الذين كانوا يتحدثون بالعربية، وأطلقوا علينا اتهامات بالإرهاب. ولم نكن نحن فقط الإرهابيين في نظرهم، بل العالم أجمع: "الأمم المتحدة، الأونروا، الاتحاد الأوروبي.. الجميع إرهابيون".

تهجير البدو

أقدم أحد المستوطنين على إحضار سكين، بينما صوب آخر بندقيته نحو رأسي لإجباري على الإمساك بها بهدف وضع بصماتي عليها واتهامي بالاعتداء عليهم. وعندما رفضت الامتثال، أطلقوا النار حولي بشكل هستيري، ومثلوا مشهد إعدامي عدة مرات. ثم قاموا بتكبيلنا وعصب أعيننا وانهالوا علينا بالضرب المبرح الذي خلف كدمات في جميع أنحاء أجسادنا. ولم يكتفوا بذلك، بل قام أحدهم بإلقاء التراب على رأسي، بينما انغمس ثالث في سلوك ساديّ تمثل في البصق المتواصل على وجهي. واستمر هذا الوضع المأساوي لساعات طويلة حتى حضرت دورية لجيش الاحتلال، حيث تم استجوابنا ومن ثم إطلاق سراحنا. يُطلق على هذه البؤرة الرعوية اسم مزرعة "هاشاش"، وهي واحدة من ثماني بؤر رعوية تم إنشاؤها في منطقة "المعرجات". يقطن في كل واحدة منها ما بين (3-5) مستوطنين فحسب، إلا أنهم تمكنوا من طرد أكثر من (40) ألف بدوي، وسيطروا على عشرات آلاف الدونمات من أراضي "المعرجات" الممتدة بين شرق رام الله وصولًا إلى أريحا. والأمر الذي يثير الاستغراب والسخرية أن مستوطني هذه المنطقة تحديدًا مصنفون رسميًا لدى السلطات الإسرائيلية على أنهم "شبان في ضائقة" يحتاجون لإعادة تأهيل نفسي وبرامج تربوية لإدماجهم في المجتمع، ومساعدتهم على التخلص من "الاضطرابات النفسية". ويسيطر بضع مئات من المستوطنين الرعاة، وغالبيتهم من هذه الفئة، على ما يقارب (380) ألف دونم في الضفة الغربية، ومصير أي فلسطيني يدخلها عن طريق الخطأ سيكون مشابهًا لما حدث لنا. لقد حسم المستوطنون الأمر الواقع في الضفة الغربية جغرافيًا، ولم تنتظر إسرائيل أن تحسمه ديموغرافيًا، وحولت الوجود الديموغرافي الفلسطيني في الضفة إلى مشكلة للفلسطينيين وليس لإسرائيل، بحيث تتضاءل الموارد من أراضٍ ومياه ومصادر طبيعية من حولهم تدريجيًا، في حين يزداد تعدادهم السكاني، ليواجهوا مصيرًا واحدًا وهو الهجرة، وكأن هذه هي النتيجة الحتمية لإعادة هندسة المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية اقتصاديًا وسياسيًا وأمنيًا. بمعنى آخر، فإن الكتلة السكانية الفلسطينية التي يبلغ تعدادها حوالي (3.4) ملايين نسمة وفقًا للإحصاء الفلسطيني لعام 2024، باتت معزولة داخل حدود البلدات والمدن، وبالكاد تتمكن من التنقل على الطرق التي تربط بينها بسبب الحواجز العسكرية الإسرائيلية، ولا تسيطر سوى على نحو 10% فقط من مساحة الضفة الغربية، بينما يهيمن (517) ألف مستوطن فقط على (90%) من المساحة الجغرافية في الضفة الغربية، ويتحكمون بها، بل ويعتدون على الفلسطينيين داخل قراهم ومدنهم، كما حدث في بلدة جيت قرب قلقيلية قبل أيام. لقد عاش الفلسطينيون طوال العقود الماضية دون إستراتيجية واضحة لمواجهة الاستيطان في الضفة الغربية. وإذا كان المثل الشائع "أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض" يُقال في مثل هذه الحالات، فإن هذا المثل يعتبر تعبيرًا لطيفًا عن واقع التعامل مع الاستيطان في الضفة الغربية، على الأقل في العقود الثلاثة الماضية التي تلت اتفاق أوسلو، حيث تُرك المواطنون في مناطق التماس وفقًا لمبدأ: "اذهب أنت وربك فقاتلا"، وتعززت فكرة الخلاص الفردي، وتُرك الضحايا يواجهون المستوطنين بمفردهم.

أضحى المواطن الفلسطيني في الضفة الغربية لا ينتقل بين المدن إلا للضرورة القصوى، خشية اعتداءات المستوطنين ورشقهم المركبات بالحجارة على الطرقات، على عكس ما كان عليه الحال خلال سنوات انتفاضة الأقصى، حين كانت الشوارع خالية تمامًا من المستوطنين؛ خوفًا من المقاومة.

تجفيف كل مقومات الحياة

ووفقًا لأحد المصادر، فقد طلب مسؤولون في السلطة الفلسطينية خلال الأسابيع الأخيرة من نشطاء المقاومة الشعبية في بلدة بيتا قرب نابلس التخفيف من أنشطتهم المناهضة للاستيطان على جبل صبيح "العرمة"، على الرغم من التضحيات الجسيمة التي قدمها أهالي بيتا في سبيل الحفاظ عليه من الاستيطان، وذلك بحجة أن السلطة معنية بالحفاظ على الهدوء في هذه الفترة. وقد أثار هذا الطلب استياء النشطاء، إذ لا توجد خطة لمقاومة الاستيطان، وفي المقابل يُراد تجفيف حتى الجهد الشعبي المحدود والذاتي! إن البدو الفلسطينيين هم الحراس الحقيقيون للأرض في وجه الاستيطان على مر السنوات الماضية. وإدراكًا من الحركة الاستيطانية لدورهم المحوري في الانتشار في مساحات واسعة من الضفة الغربية التي يستخدمونها كمراعٍ ومضارب بدوية، وغالبيتها مناطق "ج" ذات الأهمية الإستراتيجية، فقد عمدت إلى التنكيل بهم وتهجيرهم وتجفيف كل مقومات الحياة لديهم، ومصادرة مواشيهم وهدم خيامهم، واستبدالهم بـ (36) بؤرة استيطانية رعوية آخذة في الازدياد، وتتبع للصهيونية الدينية (الحريديم)، ونجحت في السنوات القليلة الماضية في الاستيلاء على 10% من مساحة الأراضي في الضفة، وهي أكبر من المساحة المبنية لجميع المستوطنات منذ عام 1967. وعلى سبيل المثال، يعمل بضع مئات من المستوطنين الرعاة على طرد الفلسطينيين البدو من كامل المنطقة الشرقية لما يُعرف بخط آلون الذي يربط بين القدس وأريحا، الأمر الذي يعني السيطرة الكاملة على نحو ثلث الضفة الغربية، وإيجاد تواصل جغرافي كامل بين المستوطنات. لقد تُرك البدو في معركتهم بمفردهم، باستثناء بعض الأنشطة الخجولة التي تقتصر في معظمها على التقاط الصور، ودون وجود إستراتيجية عملية واضحة، حتى وصلنا إلى مرحلة تم فيها تهجير غالبية البدو دون إدراك واضح لأهميتهم الإستراتيجية في حماية الجبال والتلال والمساحات التي تشكل مراعي الضفة الغربية. ويتحدث البدو بمرارة شديدة عن الخذلان، وعن ضياع الأرض تباعًا. إن إسرائيل لا تعترف بوجود الفلسطينيين في خارطة الضفة الغربية أصلًا، فهي تقسم الضفة الغربية إلى سبع محافظات تمثل كامل مساحة الضفة الغربية، وتطلق عليها "المجالس الاستيطانية الإقليمية"، بالإضافة إلى بلدية القدس التي لا يعترف بها الإسرائيليون كجزء من الضفة الغربية: شومرون وتضم (31) مستوطنة، بنيامين وتضم (54) مستوطنة، بكعات هيردين وتضم (21) مستوطنة، مغيلوت وتضم (6) مستوطنات، غوش عتصيون وتضم (14) مستوطنة، هار حفرون: وتضم (16) مستوطنة. وهذا يعني أن مدن نابلس وجنين ورام الله وأريحا، وهي من أقدم المدن المأهولة في العالم، وبيت لحم مهد السيد المسيح، وبقية المحافظات، غير موجودة على الخريطة الإسرائيلية. يرأس مجلس مستوطنات الضفة الغربية المتطرف يوسي دغان، وهو أحد المقربين من وزير المالية الإسرائيلي ورئيس الحركة الصهيونية بتسلئيل سموتريتش، وهو أيضًا الراعي الرسمي لعصابات "فتية التلال" الذين تمثلهم جمعيات أهلية مرخصة وتتلقى دعمًا حكوميًا إسرائيليًا منتظمًا، وهي جمعيات مثل: "حراس يهودا والسامرة، أمانا، نحالا.. وغيرها من الجمعيات"، ولها امتدادات في الولايات المتحدة الأميركية. فالولايات المتحدة الأميركية هي الداعم الرئيسي للاستيطان في الضفة الغربية من خلال الدعم المالي الذي تقدمه اللوبيات الداعمة لإسرائيل لهذه الجمعيات. إضافة إلى ذلك، فإن الموقف الأميركي الرسمي من الاستيطان ينقسم بين موقف الديمقراطيين الذين يعتبرون الاستيطان "مجرد عقبة أمام السلام"، وبين الجمهوريين الذين يعتبرون الضفة الغربية مساحة مشتركة للفلسطينيين والإسرائيليين.

الحاجة إلى سياسة داعمة

إن الوجود الفلسطيني الجغرافي المتصل اليوم يقتصر فقط على أجزاء من منطقة جنين، بينما يتمثل الوجود الفلسطيني خارج هذه المنطقة فقط في مراكز التجمعات السكانية من مدن وقرى ومساحات محدودة من الأراضي في محيطها، أما الباقي فيقع بشكل كامل ومطلق تحت سيطرة المستوطنين. حتى إن الحكومة الإسرائيلية صادقت مؤخرًا على إقامة خمس مستوطنات جديدة، وهي: "جفعات أساف"، "أفيتار"، "أدوريم"، "حيلتس"، و"سديه إفرايم"، بهدف منع التواصل الجغرافي بين بلدات فلسطينية في مناطق (ب) وليس (ج). وهذا يعني أن الضفة الغربية قد حُسمت جغرافيًا بالفعل لصالح المستوطنين. يستنكر الكثيرون بغضب الاعتداءات الأخيرة التي يقوم بها المستوطنون على الفلسطينيين داخل بلداتهم. فقبل أيام قليلة، قُتل مواطن، وأصيب آخرون، وأُحرقت منازل في بلدة جيت، وقبلها في المغير قرب رام الله وحوارة قرب نابلس. ولكن في حقيقة الأمر، هذا الاستنكار يبدو ساذجًا للغاية؛ لأن المنطق يدعو للتساؤل: لماذا لا يفعلون ذلك؟ إن لديهم مخططًا واضحًا وصريحًا ومعلنًا للسيطرة المطلقة على الضفة الغربية، وفي الوقت نفسه، أدى التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل إلى تقويض كل مقومات الصمود لدى الفلسطينيين في الضفة الغربية، فممن يخاف المستوطنون إذن؟ أصبح المواطن الفلسطيني في الضفة الغربية لا يجرؤ على التنقل بين المدن إلا للضرورة القصوى، وذلك بسبب قيام المستوطنين برشق المركبات بالحجارة على الطرقات، على عكس ما كان عليه الحال خلال سنوات انتفاضة الأقصى، حين كانت الشوارع خالية تمامًا من المستوطنين؛ خوفًا من المقاومة. اليوم، يعلل المواطنون في البلدات التي تتعرض للهجوم من قبل المستوطنين عدم تصديهم للمستوطنين بالقول إن من يقوم بأي عمل "تقع في رأسه" بشكل فردي، ولا يحظى بأي دعم من أحد. ويطالبون بسياسة وطنية داعمة وسلوك جماعي تجاه المستوطنين تقوده السلطة الفلسطينية، وتقوم الأجهزة الأمنية من خلاله بدورها في حماية المواطنين في هذه المناطق، وعندئذ يمكن للحراك الشعبي أن يقدم المساندة، ولكن ذلك لا يحدث، فيصبح البحث عن الخلاص الفردي هو السلوك السائد.
فعليًا، وواقع الحال يشير إلى أنه لم يتبق للمستوطنين سوى خطوات قليلة نحو حسم الصراع على الضفة الغربية، ما لم يطرأ تغيير على الوضع الأمني المسيطر على الضفة الغربية. فالخطوة التالية التي سيقدم عليها المستوطنون، بدعم من جيش الاحتلال، هي إقامة أسلاك شائكة حول المدن والبلدات الفلسطينية، ومنع الدخول والخروج منها إلا من خلال بوابات محددة، وهذا مطبق جزئيًا على بعض القرى في الضفة الغربية مثل عزون وغيرها. والخطوة التي تليها هي التهجير القسري أو التهجير الناعم. ولا يوجد أي سيناريو ثالث في ظل الوضع الراهن والسياسات المطبقة، إلا إذا تبنى الشعب سيناريو آخر يتعلق بتعزيز المقاومة الشاملة. ولا يرتبط هذا الأمر على الإطلاق بالحرب على غزة، إذ إن حالات الحرق التي شهدتها حوارة وترمسعيا، قد جُربت قبل ذلك بفترة طويلة، فهو مشروع يمتد لعقود. وقد صرح بتسلئيل سموتريتش، زعيم المستوطنين والصهيونية الدينية، بتصريحاته الشهيرة قبل عامين، قائلًا: "إن المستوطنين يفرضون سيطرتهم التامة والمطلقة على الضفة الغربية، وإنه لا يوجد شيء اسمه الشعب الفلسطيني، وهو ليس إلا اختراعًا يعود عمره إلى أقل من 100 سنة، وإن على الفلسطينيين أن يقبلوا بهذه السيطرة التامة، وليس أمامهم إلا الرحيل، أو القبول بهذا الواقع أو القتل".

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة